حديث الجمعة 303: لا تُحرقوا أعمالكم – مَنْ المسؤول عن استمرار الأزمة؟ – تأييد (الأحكام) ضدَّ الرموز السِّياسية دليلٌ على إصرار الحكم بأن يبقى التأزيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
لا تُحرقوا أعمالكم:
إذا كان مهمًّا أنْ نعمل الأعمال الصالحة فمن خلالها نتوفَّر على أرصدةٍ كبيرة من الحسنات، إلَّا أنَّ الأهمّ مِن ذلك أنْ نحافظ على رصيدنا من الطاعات والحسنات، وأنْ لا نرسل عليها نيرانًا فنحرقها..
• قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
«مَن قال: سبحان الله غَرس الله له بها شجرةً في الجنَّة، ومَن قال: لا إله إلَّا الله غرس الله له بها شجرةً في الجنَّة، ومَن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرةً في الجنَّة..
فقال رجلٌ من قريش: يا رسول الله إنَّ شجرنا في الجنَّة لكثير..
قال صلَّى الله عليه وآله: نعم ولكن إيَّاكم أنْ تُرسلوا عليها نيرانًا فتحرقوها، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾. (محمد/ 33)».
هناك أمورٌ تحرق الطاعات، ومِن هذه الأمور:
(1) الظلم:
الظلم بكلِّ أشكاله، وبكلِّ درجاته مُدمِّرٌ للطاعات، وحارقٌ للحسنات، ومخرِّبٌ للقلوب، ومؤدِّي إلى الإفلاس في الآخرة…
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«إنَّه ليأتي العبد يومَ القيامة وقد سرَّته حسناته، فيجئ الرجل فيقول: يا ربِّ ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيُجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة، فإذا جاء مَنْ يسأله نظر إلى سيِّئاتِه فجعلت مع سيِّئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتى يدخل النَّار».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«بين الجنَّة والعبد سبع عقاب، أهونها الموت، قال أنس: قلت: يا رسول الله فما أصعبها؟ قال صلَّى الله عليه وآله: الوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ إذا تعلَّق المظلومون بالظَّالمين».
• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«ألا وأنَّ الظلم ثلاثة: فظلمٌ لا يُغفر، وظلمٌ لا يُترك، وظلمٌ مغفور لا يطلب..
فأمَّا الظلم الذي لا يُغفر فالشِّرك بالله..
وأمَّا الظلم الذي يُغفر فظُلم العبد نفسَه عند بعض الهنات..
وأمَّا الظلم الذي لا يُترك فظُلم العباد بعضهم بعضًا».
• وفي الحديث القدسي قول الله تعالى:
«وعزَّتي وجلالي لأنتقمنَّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنَّ ممَّن رأى مظلومًا فقدر أن ينصره فلم ينصره».
وكلَّما كبر الظلم، وكلَّما قويَ الظلم، وكلَّما اتَّسع الظلم، كان العقاب الإلهي وكان الانتقام الإلهي أكبر وأشدّ وأقسى، وخاصة إذا كان المظلوم لا يجد ناصرًا إلَّا الله..
• وعنه صلَّى الله عليه وآله قال:
«يقول الله: اشتدَّ غضبي على ظلم من لا يجد ناصرًا غيري».
وقد غلَّظ الله عزَّ اسمه الوعيدَ للظالمين كما جاء ذلك في كثير من آيات الكتاب المجيد:
• ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾. (الكهف/29)
• ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾. (غافر/52)
• ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾. (الشورى/44)
• ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾. (الأنعام/93)
• ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾. (سبأ/31)
ويا له مِن موقفٍ رهيب مرعب صعب…
ويا له من يوم عسير ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ…﴾. (الفرقان/27)
وكما هو مصير الظالمين شديدٌ شديد كذلك مصيرُ من أعان الظالمين..
• ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾. (هود/113)
• وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«الظلمة وأعوانهم في النار».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«مَنْ أعان ظالمًا على ظلمه جاء يوم القيامةِ وعلى جبهتهِ مكتوبٌ: آيسٌ من رحمة الله».
• وفي الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام:
«إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: أينَ الظلمة، أينَ أعوان الظلمة، أينَ أشباه الظلمة، حتَّى مَنْ برى لهم قلمًا، ولاق لهم دواة، فيجمعون في تابوت مِن حديد، ثمَّ يُرمى بهم في جهنَّم».
نتابع الحديث عن (الأمور التي تحرق الطاعات) في لقائنا القادم إن شاء الله تعالى…
مَنْ المسؤول عن استمرار الأزمة؟
وقبل أنْ نجيب عن هذا السؤال يُفترض أنْ نحدِّد نقطتين:
النقطة الأولى: أنْ نشخِّص الأزمة..
النقطة الثانية: أنْ نشخِّص أسبابَ الأزمة..
فمن الخطأ – منهجيًا – أن نتحدَّث عن مسؤولية استمرار الأزمة، إذا كانت هذه الأزمة غير مُشخَّصة، وإذا كانت أسبابُها غير محدَّدة… سوف يتيهُ الحديث، وسوف يتشظَّى الجدل والخلاف…
صحيحٌ ربَّما نختلف على تشخيص الأزمة، وربَّما نختلف على تحديد الأسباب، ممَّا يُنتج خلافًا فيمَنْ هو المسؤول عن استمرار الأزمة، إلَّا أنَّ الإنصافَ يفرضُ أنْ نقرأ الواقع وفق معايير موضوعية، وهذه المعايير ليست وفق مزاج السّلطة، ولا وفق مزاج المعارضة، بل هي معايير تتَّفق عليها (الشرعية الدولية)، وتعترف بها (المواثيق والدساتير) فما لم تخضع القراءة لهذه المعايير المتَّفق عليها سوف يكون من العبث أنْ تتحرك أيّ محاولة لتشخيص الأزمة، ومنتجاتها، ومسؤولية استمرارها…
بعد هذا التمهيد نحاول أنْ نتناول النقطتين لننطلق بعد ذلك في الإجابة عن السؤال المطروح: مَنْ المسؤول عن استمرار الأزمة؟
النقطة الأولى: تشخيص الأزمة..
الأزمة في هذا البلد أزمة سياسية، وأنَّ أيَّ محاولةٍ لإعطاء الأزمة صيغة أخرى هي محاولة للهروب من واقع الأزمة، وهي محاولة للتضليل، ليست هذه قراءة المعارضة وحدها، بل هي قراءة كلّ المنصفين في العالم، وقراءة كلّ المحايدين، ومن يتابع التحليلات الصادرة عن مختصين بشؤون السِّياسة والتي قاربت أحداث البحرين يجد هذه التحليلات تتَّفق على أنَّ المشكل في هذا البلد هو (مشكل سياسي)، وإذا كان هناك تراكمات من (أزمات اقتصادية) و(أزمات اجتماعية) و(أزمات أمنية) و(أزمات دينية) فهي تداعيات للمشكل السِّياسي…
لا نشك أنَّ في البحرين أوضاعًا معيشية سيِّئة، وأنَّ في البحرين واقعًا أمنيًّا مأزومًا، وأنَّ في البحرين أجواء فاسدة دينيًّا وأخلاقيًّا، وأنَّ في البحرين تمييزًا طائفيًّا، وكلّ هذا من منتجات الفساد السِّياسي، أصلح السِّياسة الحاكمة، تستطيع أن تنقذ البلد من كلِّ واقعه السيِّئ…
إذا كانت الأزمة سياسية، فما نعني بالأزمة السِّياسية؟
هل هي أزمة نظام؟
أم هي أزمة في سياسة النظام؟
مَنْ يعتقد أنَّ الأزمة أزمة نظام يرفع شعار تغيير النظام..
إنَّ القوى المعارضة في غالبيَّتها تطرح شعار (الإصلاح السِّياسي).. فعمق الأزمة لدى هؤلاء هو (فساد السِّياسة)…
لست في صدد مناقشة القناعات، فحرية الرأي يجب أنْ تسمح بتعدّد القناعات، ولا يجوز محاسبة أيّ قناعة ما دامت في حدود (الرأي) وما دامت الأدوات في طرح الرأي مشروعة…
أنْ يُعتقل إنسان لمجرَّد أن يكون قد عبَّر عن رأي سياسي وبأسلوب مشروع، أمرٌ ترفضه دساتير ومواثيق الدول العصرية المتحضِّرة…
إذًا الأزمة سياسية، هذا ما أردنا قوله في النقطة الأولى…
النقطة الثانية: أسباب الأزمة..
إذا كانت الأزمة سياسية، فما أسباب هذه الأزمة؟
وفق المنظور الذي يتَّجه إلى أنَّ الأزمة (أزمة نظام) فإنَّ السبب هو وجود النظام..
ووفق المنظور الآخر فإنَّ الأسباب تتمركز في:
– فساد البنية السِّياسية.
– وفساد مواقع المسؤولية في مؤسَّسات الدولة.
فساد البنية السياسية يعني:
أولًا: غياب دستور صالح يوافق عليه الشعب.
ثانيًا: غياب انتخابات عادلة.
ثالثًا: غياب برلمان كامل الصلاحيات.
رابعًا: غياب حكومة منتخبة تمثِّل إرادة الشعب.
خامسًا: غياب قضاء عادل مستقل.
سادسًا: غياب مفهوم المملكة الدستورية.
وأمَّا فساد مواقع المسؤولية في الدولة فيعني:
– غياب الكفاءات الصالحة المؤهَّلة المخلصة.
– وجود تمييز فاحش في اختيار مَن يشغل المواقع الكبيرة والصغيرة.
هناك مواقع في الدولة محرَّمة تحريمًا مغلَّظًا على أبناء طائفةٍ تشكِّل وجودًا كبيرًا في هذا البلد…
وهناك انحسارٌ ملحوظ لأبناء هذه الطائفة في مجموعة وزارات…
وهناك إجحافٌ بحقِّ هذه الطائفة الكريمة في تشكيلة الحكومات المتعاقبة…
وهناك احتكارٌ لوزارات السِّيادة، ومحرَّمة على كلِّ أبناء الشعب سنة وشيعة…
وهناك الكثير من المفارقات والتجاوزات ممَّا يمثِّل فسادًا صارخًا في واقع الهيكلية الإدارية لسياسات السلطة…
وبعد الفراغ من تشخيصٍ عن هوية الأزمة وكونها أزمة سياسية، وبعد الفراغ من تحديد الأسباب التي أنتجت هذه الأزمة فيما هو الخلل في البنية السِّياسية، وفيما هو الخلل في مواقع المسؤولية يبدو الجواب عن السؤال (مَنْ المسؤول عن استمرار الأزمة) في غاية الوضوح، فما دامت الأزمة سياسية، وما دام النظام هو المسؤول عن إنتاج الأزمة، فهو بالتأكيد المسؤول عن استمرار الأزمة، وأمَّا الحلَّ فهل يتحمّله النظام وحده؟
لا نشكّ أنَّ الحلَّ بيد النظام، إلَّا أنَّ تطبيق هذا الحلّ يشترك فيه:
– النظام بكلِّ مكوِّناته..
– القوى السِّياسية الفاعلة في السَّاحة…
– جميع مكوِّنات الشعب…
فما لم تتعاون جميع هذه الأطراف فإنَّ الحلَّ سوف يتعثَّر، وأنَّ منتجاته سوف ترتبك…
وهذا لا يعني أنَّ الأطراف متساوية في حجم المسؤولية، القسط الأكبر من مسؤولية تطبيق العلاج يتحمَّله النظام، وإنَّ إنكار هذه الحقيقة سوف يبقي العلاج نظريًّا، وفاقدًا للقدرة على الحراك، وهذا ما تتعمَّده الأنظمة الحاكمة لإفشال العلاجات السِّياسية إذا وجدت نفسها مجبرة لاعتماد هذه العلاجات، فهي إمَّا أن تتهرَّب عن مسؤولية العلاج أو تعمل على إفشال العلاج، وترمي بكلِّ المسؤولية على الشعب أو القوى المعارضة لسياساتها…
تأييد (الأحكام) ضدَّ الرموز السِّياسية دليلٌ على إصرار الحكم بأن يبقى التأزيم:
مِن مصلحة النظام الحاكم في هذا البلد أن يعترف بالأزمة السِّياسية، وأن يضع يديه على أسبابها الحقيقية، وأن يبادر إلى الحلِّ السِّياسي من خلال شراكةٍ شعبية حقيقية، وليس من خلال (تلميعات) ولا (ترقيعات) لن تزيد الأمور إلَّا تأزّمًا وتعقيدًا، ولن تزيد الشعب إلَّا إصرارًا على الحراك والثَّبات والتحدِّي والمواجهة مهما كان الثمن باهضًا، ومهما كانت التضحيات مرهقة، وهذا هو خيار شعبنا، وهذا هو قدره حتى تتحقَّق مطالبه، وحتى تنتصر إرادته، فمن الخير كلّ الخير لهذا الوطن أنْ تتوقَّف السطوة الأمنية الباطشة وأن تتنظَّف السجون وأن يبدأ تغيير سياسي جادّ وحقيقي يلبِّي طموحات هذا الشعب الوفي الذي يستحقّ كلّ التكريم بما قدَّم لأرضه ولوطنه انطلاقًا من دينه وقِيَمه ومبادئه، لا أن يكون جزاؤه الملاحقة والفتك… والقتل والسجون، وممَّا يؤسف له جدًّا أنَّ (مؤشرات الانفراج) غائبةٌ كلّ الغياب، وما تأييد (الأحكام) ضدَّ الرموز السِّياسية إلَّا دليلٌ صارخٌ على إصرار الحكم بأن يبقى التأزيم وأن تبقى الأوضاع مشحونة بالتعقيد، وإلَّا لو وجد أدنى مؤشر في اتجاه الحلّ، لما كُرِّس هذا الظلم في حقِّ هؤلاء النخبة الطيِّبة المخلصة كلَّ الإخلاص لهذا الوطن والتي ضحَّت لكي تبقى إرادة هذا الشعب قوية وعزيزة، ولكي تنتصر قيم الحقِّ والعدل، حمى الله البلاد والعباد من كلِّ سياسات العبث والفساد…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.