حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 379: انتهى موسم عاشوراء (3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ الميامين…


انتهى موسم عاشوراء (3)
فهناك مَنْ حارب هذا الموسم العاشورائي..
وهناك مَنْ أغفله وأهمله..
وهناك مَنْ احتضنه وأحياه..
هذه مواقف ثلاثة من عاشوراء، وكلّ موقف يتشكل من مستويات، فعاشوراء تتجدَّد، والمواقف فيها تتجدَّد..
نحاول في هذا الحديث أنْ نتناول المواقف من عاشوراء..


الموقف الأوَّل:
الحرب ضدَّ عاشوراء:


وقد أخذت هذه الحرب عدَّة أشكال:


الشكل الأوَّل:
الحرب الإعلامية:


وتهدف هذه الحرب تشويه سمعة عاشوراء، وسمعة مَنْ يحيون عاشوراء..
وانتظم في هذه الحرب:
– محطَّات فضائية..
– إذاعات..
– مواقع للتواصل الاجتماعي..
– أقلام وكتابات..
– منابر دينية..


واعتمدت هذه الحرب لغة التزوير والكذب والاتهام..
لا ننفي وجود (ممارسات عاشورائية خاطئة) أعطت لأولئك المحاربين لعاشوراء مادةً دسمة للتشويه والإساءة، إلّا أنّ هذا لا يبرّر الحرب ضدّ عاشوراء، ولا يسوّغ الإساءة لكلّ مظاهر الإحياء العاشورائي…


فهل يصح أنْ نتهم الإسلام حينما نرى أنّ بعض المسلمين يمارسون أعمالًا خاطئة وأعمالًا متخلفة؟
وهل يصح أنْ نتهم الإسلام بالإرهاب والعنف والتطرُّف حينما نرى بعض المنتسبين إلى الإسلام يمارسون أسوء أنواع الإرهاب والعنف والتطرف؟
لا يصح ذلك إطلاقًا، نعم يجب أنْ نواجه هذه الأعمال الخاطئة والمتخلَّفة، وهذه الأعمال المتطرِّفة لأنَّها مرفوضة إسلاميًا ودينيًا، وحتَّى لا نعطي لأعداء الإسلام المبرِّر للطعن والتشويه والإساءة.


وهكذا لا يصح أنْ نتهم شعائر عاشوراء ومراسيم الإحياء العاشورائي لمجرد أنَّ بعض الممارسات الخاطئة والمتخلِّفة والمنحرفة كان لها حضور في هذا الموسم.


إذًا الشكل الأول من أشكال الحرب ضدَّ عاشوراء هو (الحرب الإعلامية) بكلِّ مستوياتها، وبكلِّ أدواتها.


الشكل الثاني:
الحرب السِّياسية:


مارست أنظمة حكم عبر التاريخ حربًا سياسيةً ضدَّ شعائر ومراسيم عاشوراء، تمثَّلت هذه الحرب السّياسية في:
– منع إقامة المراسم العاشورائية: (منع مجالس عزاء، مواكب عزاء، فعَّاليات عزاء)
– اعتقال خطباء، منشدين، شعراء، رواديد، مسؤولي حسينيات ومواكب، ناشطين عاشورائيين…
ربَّما استطاعت هذه الحرب السّياسية أنْ تحاصر (مراسم الإحياء العاشورائي) كما حدث في العراق أثناء حكم البعث، إلّا أنّ هذا الحصار السّياسي ما استطاع أنْ يقتلع الجذوة العاشورائية في نفوس عُشاق الحسين، ولذلك ما إن سقط ذلك النظام حتّى تفجّر حماس الجماهير، وها نحن نشهد الزحف المليوني إلى كرّبلاء الحسين…
فالحرب السَّياسية ضدّ عاشوراء فاشلة إن عاجلًا أو آجلًا، وهذا ما برهنته الأيام إنْ في التاريخ أو في هذا العصر…


فكم حاصرت أنظمة حاكمة مراسم عاشوراء في الكثير من المناطق إلّا أنّها فشلت في تعطيل عاشوراء وفي إسكات صوت عاشوراء…


الشكل الثَّالث:
حرب العنف والإرهاب..


وهذا الشكل هو أشرس ألوان المواجهة لعاشوراء الحسين، وقد مارس هذه الحرب أنظمة حكم، وإرهابيون، ومتطرفون مذهبيون، وقد سالت دماء غزيرة عبر التاريخ، ولا زالت تسيل في طريق إحياء شعائر عاشوراء، فأنظمة الحكم المعادية لعاشوراء مارست القتل والإعدامات في مواجهة عاشوراء.


وكذلك الإرهابيون المتطرفون المذهبيون أراقوا الكثير من دماء العاشورائيين، وها نحن نشهد في هذا العصر الاعتداءات المسلَّحة على مجالس العزاء، ومواكب العزاء، ومسيرات العزاء… وهنا نحن نشاهد التفجيرات الإجرامية والتي كان ضحيتها الآلاف من عشاق الحسين.


والسؤال الكبير: هل استطاعت أعمال الإرهاب والعنف والتطرّف أن توقف مسيرة عاشوراء؟


كلَّا وألف كلَّا، بل زادت من حماس عُشَّاق عاشوراء، وزادت من فوران العواطف العاشورائية، بل وزادت من غليان الغضب العاشورائي، فالدماء رخيصة رخيصة في طريق الحسين…


فها هي الملايين الزاحفة إلى كربلاء تصرخ هاتفةً:
لو قطَّعوا أرجُلنا واليدين                     نأتيك زحفًا سيدي يا حسين
فها هي الملايين في كلِّ بقاع الدنيا تصرخ هاتفة «لبَّيك يا حسين» لتعلن للعالم كلِّ العالم أنّ (الحسين) عنوان يتحدَّى الفناء، ويتحدَّى كلَّ جبروت الطغاة، ويتحدَّى كلَّ إرهاب الدنيا ويتحدَّى كلَّ محاولات الإلغاء…
فالحسين خالد، وعاشوراء الحسين خالدة، وعُشَّاق الحسين باقون ما بقي الحسين وما بقيت عاشوراء الحسين.


إلى هنا كان الحديث عن الموقف الأوَّل تجاه عاشوراء وهو موقف الحرب ضدَّ عاشوراء.


وأمَّا (الموقف الثَّاني):
فهو موقف الإغفال والإهمال:

أكثر المسلمين لا يعادون عاشوراء، ولا يحاربون عاشوراء، إلَّا أنَّهم لا يتعاطون مع عاشوراء، ولا يمارسون إحياء عاشوراء ليس من منطلق الحرب ضدَّ عاشوراء وإنَّما بسبب:
(مشروعات التغييب لعاشوراء)
فعاشوراء ليس حاضرة في وعيهم، ولا في وجدانهم، ممَّا أنتج هذا الانفصال عن عاشوراء.


لقد كرَّست أنظمة الحكم عبر التاريخ هذا (التغييب) لعاشوراء، من خلال الحواجز المصطنعة بين عاشوراء وجماهير الأمَّة من غير أتباع مدرسة أهل البيت.


ولو أزيلت هذه الحواجز المصطنعة لانفتحت جماهير المسلمين من كلِّ المذاهب على عاشوراء الحسين، ولتعاطوا معها بكلِّ حبٍّ وإخلاص، لأنَّه لا يوجد في المسلمين مَنْ لا يحب الحسين، ولا يوجد في المسلمين مَنْ لا يتفاعل مع مأساة الحسين، ولا يوجد في المسلمين مَنْ لا يبكي الحسين.
أيّ مسلم بل أيّ إنسان يملك وجدانًا صافيًا لا يتفاعل ولا يبكي حينما يستمع هذا المشهد العاشورائي
(الحسين يحتضن رضيعًا، قد تفتت كبده من الظمأ وغارت عيناه من العطش، وجفَّ لسانه من الوهج، وارتعشت أعضاؤه…
الحسين ينظر إلى هذا الرضيع، إلى عينيه الغائرتين، إلى وجنتين الذابلتين، إلى يديه المرتعشتين، ما تمالك الحسين أنْ دمعت عيناه…
ضمَّ رضيعه إلى صدره، طبع على وجنتيه قبلاتٍ حارةً، ممزوجةً بدموعٍ ساخنة…
وتمتمت شفتاه بالدعاء «ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدُك المصطفى خصمَهُم»
ثمَّ حمل خطواتِه نحو القوم، خاطبهم بكلماتٍ حاولت أنْ تعثر على بقيةِ رحمةٍ إنْ كانت في قلوبهم:
«إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل الرَّضيع»
اختلف القوم…
فقال قائل: اسقوا الطفل ماءً فما ذنب الصغار
وقال آخرون: لا تبقوا لأحدٍ من هذا البيت بقية
وكاد الجيش ينقسم…
وقطع حرملةُ اللعين نزاعَ القوم، فأرسل سهمًا حاقدًا ذبح الطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد، وهو بين يدي أبيه الحسين، وتمطَّى الطفل، وقطع القماط، واعتنق أباه، تلقى الحسين الدم بكفِّه، رمى به نحو السماء، ولم تسقط من ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض).
هذا مشهد من مشاهد عاشوراء، فأيّ مسلم يملك ضميرًا حيًّا يسمع بهذا المشهد فلا يبكي، ولا يتفاعل..
والمشهد الأعظم في يوم عاشوراء
«الحسين سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله
حجرٌ طائش صكَّ جبهته
سهمٌ مثلث اخترق قلبه
ولعينٌ خائن جثم فوق صدره
وسيف حاقد حزَّ نحره
وأجلافٌ جفاة تزاحموا على سلبه
وخيول مسعورة هشمت أضلاعه
وفوق السنان رفعوا رأسه
ثمّ حرقوا خيامه، وسلبوا نساءه، وضربوا أطفاله.. وأصبحوا سبايا يجوبون بهم البلدان»
أيّ مسلم يملك ذرة من ضمير، ووجدان، ومشاعر، بل أيّ إنسان…
لا يبكي الحسين وهو يقرأ هذه المشاهد المفجعة؟
لكنَّهم حجبوا الصورة عن النَّاس، حجبوا المأساة والفاجعة، وصنعوا بينهم وبين عاشوراء حواجز…
إلَّا أنَّ وسائل الإعلام في هذا العصر اخترقت كلَّ وجدان، فلا عذر لأحد أنْ يبقى جاهلًا بفاجعة الحسين، وظلامة الحسين، إلَّا أولئك الذين مات داخلهم الضمير، وران على قلوبهم العمى، ومسخت عقولهم وسائلُ التضليل، وأسرتهم العصبيةُ العمياء.
وهؤلاء قلةٌ بين المسلمين…
وأمَّا الغالبية العظمى من المسلمين بكلِّ مذاهبهم فهم لا يحملون أيَّ عقدة تجاه عاشوراء، وهم يملكون كلَّ الاستعداد النفسي للانفتاح على عاشوراء متى أزيلت الحواجز التي تحجب عاشوراء، هذه الحواجز التي وضعها أعداءُ عاشوراء، وكذلك صنعها عُجزنا نحن في اقتحامها بسبب عجز الخطاب والأدوات المعتمدة في إيصال عاشوراء للآخرين، وبسبب ممارسات خاطئة شوَّهت الصورة لعاشوراء…
فالمطلوب العمل الجاد لإزالة هذه الحواجز لتكون عاشوراء حاضرة لدى كلِّ المسلمين، بل لدى كلِّ العالم، فقيم عاشوراء، وأهداف عاشوراء قادرة أنْ تخاطب البشرية بكلِّ مكوِّناتها وأديانها وطوائفها لو أتقنا إنتاج الخطاب ووسائل الإحياء وطوَّرنا الأدوات، وأزلنا كلَّ المُشوِّهات وكنَسْنَا كلَّ المُنفِّرات…
وهذا ما سوف نتناوله بشكل أوضح حينما نتحدَّث عن الموقف الثالث (موقف الإحياء والاحتضان)
في لقاء قادم إنْ شاء الله.


وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى