حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 553: حضور الموسم العاشورائيُّ في واقعنا (1)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين وبعد:
حضور الموسم العاشورائيُّ في واقعنا
فقد انتهى موسم عاشوراء.
والسُّؤال الكبير الذي يجب أنْ يُطرح هنا:
•كيف يمكن أنْ نُبقي هذا الموسمَ العاشورائيَّ حاضرًا في واقعنا؟
ماذا نعني بهذا الحضور؟
هل نعني به بقاء الفوران العاشورائيِّ الكبير؟
هذا طبعًا لا يمكن، لأنَّ لموسم عاشوراء في زمانه المخصوص والذي يمتدُّ من غرَّة محرَّم حتى العاشر منه، لهذا الموسم خصوصيَّة لا يمكن أنْ تتكرَّر في أيِّ زمان آخر.
فهو الموسم الَّذي حدثت فيه فاجعة كربلاء بكلِّ تفاصليها، فمن الطبيعي جدًّا أنَّ منسوب التفاعل الوجدانيَّ مع الفاجعة يكون أكبر، والحرارة أشدُّ، والحزن أقوى.
إذًا ماذا نعني باستمرار الحضور؟
هل نعني به (استمرار التواجد الاستثنائيِّ) في المجالس، والمواكب والفعَّاليات؟
هذا أيضًا لا يمكن، فالموسم في زمانِه له (انجذاباته) التي لا يمكن أنْ تكون في أيِّ زمان آخر.
هل نعني باستمرار الحضور استمرار الحماس في البذل والتفاني في الخدمة الحسينيَّة؟
هذا طبعًا لا يمكن.
فموسم عاشوراء يفرض درجاتٍ عالية جدًّا من البذل والتفاني لا يمكن انتاجها في غير هذا الموسم.
إذًا ماذا نعني باستمرار الحضور العاشورائيِّ؟
نعني بهذا الاستمرار:
اولًا: أنْ تبقى عاشوراء حاضرةً في الوجدان
ثانيًا: أنْ تبقى عاشوراء حاضرةً في الوعي
ثالثًا: أنْ تبقى عاشوراء حاضرةً في السُّلوك
وكلما ارتقى مستوى هذا الحضور الوجدانيُّ، والثقافيُّ، والعمليُّ، كان الاستمرار العاشورائيُّ أصدق وأقوى.
أحاول أن أوضح هذه الأبعاد الثلاثة من الحضور.
البعد الأوَّل: الحضور الوجداني
بمعنى أنْ تصنع عاشوراء (وجدانًا إيمانيًّا) يؤسِّس للذَّوبان الحقيقيِّ والدائم مع الدِّين وقِيَمه.
التعامل مع الدِّين وقِيَمهِ يحتاج إلى درجاتٍ عاليةٍ من الذَّوبان، والتفاعل، والانصهار؛ وإلَّا كان هذا التعامل (فاترًا راكِدًا جافًّا).
وإذا كان الأمر كذلك هبطت لدى الإنسان درجات الحرارة الإيمانيَّة.
إذًا من أهم معطيات الموسم العاشورائيِّ (الارتفاع بدرجات الحرارة الإيمانيَّة).
وهذا الارتفاع هو الذي يؤصِّل حالة التمسُّك بالدِّين وقِيَمِه، وحالة الدِّفاع عن الدِّين وقِيَمِه.
فإذا استمر هذا المُعطى العاشورائيُّ الكبير استمر حضور عاشوراء في وجدان جماهير عاشوراء الحسين (عليه السَّلام).
هذا هو البعد الأول من استمرار الحضور العاشورائيِّ.

البعد الثَّاني: الحضور الثقافيُّ
بمعنى أنْ تبقى عطاءات الموسم العاشورائيِّ حاضرةً في وعي الجماهير.
القيمة الكبرى لموسم عاشوراء حينما يصنع (وعيًا إيمانيًّا)، هذا الوعي لا يُراد له أنْ يكون (مؤقَّتًا) بأيام الموسم.
إنَّه وعيٌ يُراد له أنْ يبقى، أنْ يستمر.
إنَّ حصيلة (التَّثقيف العاشورائيِّ) لا قيمة لها إذا لم تأخذ مداها المستمر، ومداها الفاعل.
مِنْ جمهور عاشوراء مَنْ لا يستفيد من موسم عاشوراء ثقافيًّا.
ومِنْ جمهور عاشوراء مَنْ يستفيد من موسم عاشوراء ثقافيًّا، ولكنَّها استفادة ضئيلة ومنخفضة.
ومِنْ جمهور عاشوراء مَنْ يستفيد من موسم عاشوراء ثقافيًّا استفادة كبيرةً، إلَّا أنَّ هذه الاستفادة مؤقَّتة.
ومِنْ جمهور عاشوراء مَنْ يستفيد من موسم عاشوراء ثقافيًّا استفادة كبيرة، وهذه الاستفادة تبقى وتستمر، وهذا هو المطلوب.
إذا كان هناك (محطَّات سنويَّة) لبناء وعي الأجيال، فمن أهمِّ هذه المحطَّات (موسم عاشوراء) فهذا الموسم غنيٌّ كلُّ الغنى بعطاءاتِه الثقافيَّة والفكريَّة.
فقيمة الموسم العاشورائيِّ تتحدَّد من خلال قدرته على إنتاج (الوعي)، وبناء (ثقافة الأجيال) وفق مدرسة عاشوراء، ومفاهيم عاشوراء، وأهداف عاشوراء.
هذا هو البعد الثاني من أبعاد استمرار الحضور العاشورائيِّ.

البعد الثَّالث: أن تبقى عطاءات عاشوراء حاضرة في السُّلوك
بقدر ما لبقاء عاشوراء في الوجدان من قيمة كبرى.
وبقدر ما لبقاء عاشوراء في الوعي من قيمة كبرى.
فإنَّ بقاء عاشوراء في السُّلوك هو الذي يحقِّق أهداف الموسم العاشورائيُّ.
قيمة موسم عاشوراء حينما تبقى قِيَم، ومُثُل، وأخلاق عاشوراء.
قيمة موسم عاشوراء حينما تبقى تقوى عاشوراء، وورع عاشوراء.
قيمة موسم عاشوراء حينما يبقى بذل عاشوراء، وعطاء عاشوراء، وجهاد عاشوراء، وتضحية عاشوراء.
أخلص إلى القول:
إنَّ قيمة الموسم العاشورائيِّ حينما يتحوَّل هذا الموسم عطاءً فاعلًا متحرِّكًا يبقى ويستمِّر.
موسم عاشوراء مقطع من الزَّمن يمتَّد من بداية محرَّم حتى العاشر من المحرَّم، وربَّما امتدَّ إلى الثَّالث عشر من المحرَّم.

عاشوراء نسخة لا تتكرَّر
إنَّ هذه النسخة العاشورائيَّة لا تتكرَّر.
ربَّما حاولت (عشرات الإعادة) استنساخها، إلَّا أنَّها محاولة خافقة ومتعثِّرة.
هذا الاستنساخ غير ممكن لأسباب موضوعيَّة.
ثمَّ أنَّ التفاصيل الكاملة لمصرع سيِّد الشُّهداء يجب أنْ تُتْرك ليوم عاشوراء.
لا مشكلة أنْ تقارب (لقطات) من فاجعة كربلاء، وهذا مطلوب لكي يبقى وهج الفاجعة، إلَّا أنَّ ليوم عاشوراء خصوصيَّة لا تتكرَّر.

المجالس الامتداديَّة لعاشوراء
إنَّني أدعو أنْ تكون (المجالس الامتداديَّة لموسم عاشوراء) مجالس تُتابع (مسيرة عاشوراء)، وأحداث ما بعد عاشوراء.
مطلوبٌ أن تعالج:
•معطيات عاشوراء.
•ماذا تحقَّق من أهداف عاشوراء؟
•الإشكالات التي واجهت عاشوراء.
•كيف نحافظ على منجزات عاشوراء؟
•دراسة تقويميَّة للثورات التي انطلقت بعد عاشوراء الإمام الحسين (عليه السَّلام).
•التوظيف الحقيقيَّ لخطاب عاشوراء.
•دراسات تفصيليَّة في سيرة أنصار الإمام الحسين (عليه السَّلام).
•أهم التحدِّيات التي تواجه موسم عاشوراء.
•قراءة تحليليَّة تفصيليَّة نقديَّة لمدوَّنات عاشوراء.
•تحدِّيات تواجه المنبر الحسينيَّ.
•المنبر الحسينيَّ وآفاق المستقبل.
•الأجيال العاشورائيَّة الحاضر والمستقبل.
هذه عناوين وغيرها كثيرٌ في حاجةٍ إلى معالجة، وإلى دراسة.
فلماذا لا تُوظَّف (العشرات) لمعالجة الكثير من العناوين التي لا زالت في حاجةٍ إلى معالجة، ولا زالت تمثِّل (إشكاليَّات) خاصَّة في أذهان الأجيال الجديدة؟
أخشى ما أخشاه أنْ تبتعد هذه الأجيال عن (خطابنا)، عن (مجالسنا)، عن (موسم عاشوراء).
لا زالت عاشوراء تعيش في وجدان هذه الأجيال، فإذا لم يستطع (خطابنا العاشورائيُّ) أنْ يقتحم عقول هذا الأجيال، فالنتائج مرعبة جدًّا.

معايير تقويم الموسم العاشورائيِّ
أيُّها الأحبَّة:
بعد كلِّ موسم عاشورائيٍّ يجب أن نمارس عمليَّة (تقويم)
وأهمُّ مفردات هذا (التقويم) أنْ نقرأ (خطاب الموسم العاشورائيِّ).
إنَّ هذه القراءة تعتمد ثلاثة معايير في ضوء ما تقدَّم من أبعاد الحضور العاشورائيِّ:
•البعد الوجدانيَّ
•البعد الثقافيَّ
•البعد السُّلوكيَّ
فمعايير القراءة لخطاب الموسم العاشورائيِّ ثلاثة:
المعيار الأول: قدرة الخطاب على إنتاج الوجدان العاشورائيِّ.
وإذا كنَّا هنا نتحدَّث عن (مسألة الحُزن)، و(مسألة الدَّمعة) فإنَّنا نتحدَّث عن (مسألة العشق العاشورائيِّ).
ربَّما يملك الخطاب أن يصنع (حزنًا)، وأن يصنع (دمعة)، ولكنَّه لا يقدر أنْ يصنع (عشقًا)، فليس كلُّ مَنْ حَزَن، وبكى، ودمعت عيناه يكون قد وصل إلى (درجة العشق العاشورائيِّ).
الوصول إلى درجة (العشق العاشورائيِّ) يحتاج إلى:
•(استعدادات أرواح)
•و(استعدادات قلوب)
•و(استعدادات ضمائر)
البكَّاؤون الحقيقيُّون الصَّادقون هم الذي يتحوَّلون (عشاقًا حقيقيِّين لعاشوراء، ولأهداف عاشوراء).
وهنا تأتي مسؤوليَّة الخطاب العاشورائيِّ.
وبقدر ما يتمكَّن هذا الخطاب من:
•إنتاج الحزن العاشورائيِّ
•وإنتاج الوهج العاشورائيِّ
•وإنتاج العشق العاشورائيِّ
يكون الخطاب قد حقَّق (شرطًا أساسًا) من شروط النجاح.
ولن يتحقَّق ذلك إلَّا إذا كان الخطاب نفسه يملك (درجات عالية) من (الحزن)، و(الوهج)، و(العشق العاشورائيِّ).

المعيار الثاني: من معايير القراءة لخطاب الموسم العاشورائيِّ (قدرة الخطاب على إنتاج الوعي العاشورائيِّ)
ربَّما يملك الخطاب القدرة على إنتاج (الحزن العاشورائيِّ)، وعلى (إنتاج العشق العاشورائيِّ)، إلَّا أنَّه لا يملك القدرة على إنتاج (الوعي العاشورائيِّ).
هنا يفقد الخطاب دوره المتكامل.

مقوِّمات نجاح الخطاب العاشورائيِّ
من أساسات نجاح الخطاب العاشورائيِّ التوفُّر على (قدرة إنتاج الوعي العاشورائيِّ).
ومن أجل أن يكون الخطاب ناجحًا في إنتاج الوعي العاشورائيِّ يحتاج إلى:
(1) كفاءة علميَّة وثقافيَّة
فلا يملك الخطابُ قدرةً على إنتاج الوعي العاشورائيِّ إذا انخفض مستوى الكفاءة العلميَّة، والثقافيَّة، ولهذا الانخفاض مردودات خطيرة، فهو يُسطِّح ويُربك وعي الجمهور، وربَّما ينحرف به.
قد يقال: هل معنى هذا أنْ لا يُسمح لمن ابتدأ الخطابة أن يرتقي المنبر؟
لا أرفض أنْ يمارس هؤلاء (التدرُّب على الخطابة)، بشرط أنْ تكون هذه الممارسة خاضعة لتوجيه واشراف كفاءات خطابيَّة مؤهَّلة ومُمَارِسة.

(2) مهارة خطابيَّة
لا أتحدَّث هنا عن (المهارة الصوتيَّة)، وإنْ كان لها أهمِّيتُها، ودورها في اجتذاب الجمهور.
وإنَّما أتحدَّث عن (المهارة الخطابيَّة) المتمثِّلة في (القدرات والكفاءات الخطابيَّة)، والتي ترتقي بأداء المنبر.
الأداء الناجح يحتاج مستويات عالية من القدرات والكفاءات الخطابيَّة الناجحة.
ما يميِّز المنابر الراقية هو (الأداءات الخطابيَّة الراقيَّة)، هذه الأداءات القادرة على اجتذاب وعي الجمهور، والقادرة على الارتقاء بهذا الوعي.

(3) لغة خطابيَّة مؤهَّلة
اللُّغة فيما تمثِّله من كلمات ومفردات وعبارات هي الأداة في إيصال الأفكار، وكلَّما ارتقى مستوى هذه اللغة ارتقى مستوى الأداء.
لغة المنبر العاشورائيِّ في حاجة أنْ تتجدَّد، وفي حاجة أنْ ترتقي؛ لتكون قادرة أنْ تحاكي مسارات الوعي، ومسارات التجدُّد.
ربَّما لغة الخطاب السَّائدة قبل خمسين سنة غير قادرة على مقاربة وعي أجيال هذا العصر.
هذه الأجيال الجديدة في حاجة إلى لغة جديدة.
لكي تبقى هذه الأجيال مرتبطة بالمنبر يجب أنْ يتوفَّر المنبر على لغة قادرة أنْ تبقي هذا الارتباط.
يذكر الشَّهيد السَّيد محمَّد باقر الصَّدر في إحدى محاضراته – أنَّ من أهمِّ أسباب انفصال الأجيال الجديدة عن الدِّين هو -: “إنَّ الخطاب الدِّينيَّ لم يُجدِّد لغته، ولم يُطوِّر أساليبه”.
إنَّ خطاب المنبر الحسينيِّ هو أبرز مصاديق الخطاب الدِّينيِّ، وجماهير المنبر هي الجماهير الأوسع.
فمسؤوليَّة هذا الخطاب هي الأخطر.
فمن أجل خلق آفاق مستقبليَّة تؤهِّل المنبر الحسينيَّ لأداء مسؤولياته بمستوى الأهداف والتحدِّيات يجب أنْ ترتقي (كفاءات هذا المنبر)، وأنْ ترتقي (قدراته ومهاراته)، وأنْ ترتقي (لغته).
للحديث تتمَّة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى